وقائع الحب والتمرد والموت.. بجوار رجل أعرفه

يستخدم
"محمد فتحي" لغة بسيطة غير متقعّرة، لكنها مليئة بالعمق والدلالات في ذات
الوقت، ولديه قدرة كبيرة على الوصف وحشد التفاصيل بلغة عربية فصحى دقيقة،
وهو في نفس الوقت قادر على تطعيم القصة بحوارات وديالوجات باللغة العامية
الدارجة -التي تصل إلى حد السباب- في تناغم واضح، ومن دون شعور بأن هناك
تنافرًا أو قطعًا حادًّا في الانتقال من الفصحى إلى العامية وبالعكس،
مثلما حدث في قصة "تاكسي وركبة مقدسة" إذ كتب يقول: "أفلتت من الفتاة
ابتسامة رغمًا عنها قبل أن تداري شفتيها في خجل مصطنع بعدما نظرْت إليها
في اندهاش، وحين ضحكت أنا الآخر لم تستطع أن تمنع نفسها من الضحك بصوت
مسموع، وهي تنظر لي في تردد، شجعتني على مبادرتها بالحديث فعاجلتها:
"غريبة أغاني اليومين دول والله.. حاجة –يعني- مبتذلة"، ابتسمت دون تعليق،
فأكملت:" إيه يعني "تعالى بالليل وأوريك الويل".. طب ما توريهوله دلوقتي
واخلصي.. وهو يبقى موجود ليل ونهار، والحركات دي.. إنتي أخت كريم؟".

يميل
"فتحي" إلى مفاجأة القارئ بما لا يتوقعه، ويلجأ في أحيان كثيرة لأن تكون
نهاية بعض القصص صادمة، لكنه يفعل ذلك بطريقة إنسيابية هادئة، متماسًّا في
ذلك مع ما كان يفعله الكاتب الفرنسي الشهير "جي دي موبسان".. خذ مثالاً
على هذا في القصة الجميلة "اللعب مع بشوي" التي تتحدث عن الوحدة الوطنية
بدون "زعيق" أو تطييب للخواطر على طريقة صورة "شيخ الأزهر" و"البابا
شنودة"، فبعدما يقول الرواي أنه امتنع عن اللعب مع "بشوي" مشوقًا إياك
لمعرفة السبب الحقيقي تأتيك الصدمة في النهاية: "لم أعد ألعب مع "بشوي"؛
لأسباب عديدة ليس من بينها أنه يسكن في "العشة الخشب" عند شريط القطار
الذي تحذرني أمي من المشي فوقه؛ كي لا يدهسني السواق المفتري الذي دهس من
قبلي ثلاث عيال، ولا لأنه لم يعد يناديني منذ فترة؛ حتى أركب خلفه على
العجلة، ولا لأنه ضرب "بربارة" بسببي عندما بصقت في وجهي، وسبتني بأمي،
لكن لأسباب منطقية تتلخص في أن عشة "بشوي" الخشب احترقت، وكان "بشوي"
و"بربارة" بداخلها".

نفس
النهاية المغايرة المفاجئة تتكرر في أكثر من قصة أخرى في المجموعة مثل
"الشباك" التي يتحدث فيها -دون أي مبالغات أو ابتذال وبأسلوب لافت- عن
العادة السرية، و"تأمين حراسة" التي تتماسّ مع خط سياسي حرّاق غير مرئي
رغم أنها تتحدث عن طريقة مبتكرة للسرقة، و"offer" التي يبدو فيها الحب
رخيصًا جدًّا لدرجة أنه يمكن أن يباع في "الهايبر ماركت".

يميل
"محمد فتحي" إلى الجمع بين الحب والموت؛ سواء بمعناه المباشر أو بمعناه
الضمني عن طريق الفقد والابتعاد عن الحبيب في أكثر من قصة؛ مثل: "شخص غيرك
هو أنت"،"لقاء"،"ولد وبنت"، و"رائحة المحبة"..

واللافت أن بعض هذه القصص لا يتعدى الصفحة الواحدة، وكأنه يلخِّص بداية الحياة ومنتهاها في سطور قصيرة، مركزة، محتشدة بالتفاصيل..

لا
تظهر السياسة كثيرًا في المجموعة، لكن روح التمرد فيما يتعلق بالثوابت
المرتبطة بـ"الدين، والجنس" تظهر ربما بشكل عنيف في أكثر من قصة، خصوصًا
فيما يتعلق بتحطيم الأبراج العاجية التي يسكن فيها عادة الرموز الدينية
التقليدية "الشيخ، والقس"، وقد فعل ذلك باقتدار و"حرفنة"، ومن دون مزايدة
في قصتي "سيدنا رزق"، و"أبونا حزقيال"، فيما لم يفلت "الأب" -وهو رمز كبير
شامخ كالجبل في الموروثات الشعبية المتعلقة بالأسرة- من سوط الكتابة
المتمردة أصلاً، وقد فعل ذلك في القصة التي تحمل المجموعة اسمها "بجوار
رجل أعرفه".. وفيها يقول: "في اليوم التالي كنا نقف أنا وأخي على جثة
أبينا، ونغسِّلها، ولا أدري لماذا لم أعترض حين أخرج أخي الجميع من الغرفة
فيما عداي، قبل أن يطفئ سيجارته على جسد أبي في تلذذ، وينظر لي بعدها نظرة
عجيبة لن أنساها ما حييت، وهو يقول لي: "البقية في حياتك".. مشهد صادم
قاسٍ، لكنه يحمل دلالة كبيرة عندما تعرف أن الأب الراحل كان يتعمد إطفاء
السجائر في ظهور أولاده العارية حتى يصنع منهم رجالا.

دٌرة
القصص في الكتاب هي "حسين الذي..."، ففيها مساحات خيال واسعة متشابكة مع
تفاصيل واقعية آنية في تضفير جعلهم وكأنهم عجينة واحدة، إلى جانب أن بها
مسحة صوفية واضحة تعطي دفقة شعورية كبيرة للقارئ، رغم أنها تحفل بعدد من
الشتائم الصريحة ربما كان يجب على المؤلف تخفيفها قليلاً، خاصة وأنه قادر
على توصيل معناها القاسي من دون التصريح المباشر هذا، وربما كان عليه
–أيضًا- أن يعيد ترتيب القصص في المجموعة؛ ليقرب المسافات بين بعضها
البعض، خصوصا وأن هناك مساحات مشتركة بين بعضها فلو تمت قراءتها بشكل
متتالي لأعطى ذلك تأثيرًا أقوى مما هو الحال عليه الآن وهي متباعدة بعض
الشيء.. من يدري لربما اختار "محمد فتحي" ذلك الترتيب للقصص بغرض أن يأخذ
القارئ في جولة "زجزاجية" من فوق إلى أسفل، وبالعكس؛ تمشيًا مع حالة
التمرد المحببة والمبدعة التي تشمل المجموعة القصصية ككل